السبت، 4 فبراير 2012

عناية الأمم بلغاتها


عناية الأمم بلغاتها   
                                    بقلم :  الأستاذ: شاكر لقمان
                                       قسم اللغة العربية وآدابها
                                      جامعة أم البواقي/الجزائر.
                                                                               

     تُعنى الأمة الحيّة بلغاتها الحية أيما عناية ، فتعمل على نشرها والاعتزاز بها  والتمسّك بأصولها رمزا لهويتها وذاتيتها ، فها هي ذي اليابان قد استسلمت في الحرب العالمية الثانية تحت وطأة القنابل الذرية الأمريكية ، واستطاع هؤلاء الأمريكيون أن يفرضوا شروطهم  المجحفة على اليابان ؛ كتغيير الدستور  وحلّ الجيش ونزع السلاح  ،إلى غير ذلك من مظاهر التسلط وفرض القوة ، ولم يكن لهذه الدولة المستسلمة إلا أن ترضخ  و تتضع ، إلا أمام شرط وحيد ، ظلت به متمسكة  وعنه غير متخلية ، ألا وهو لغتها القومية في التعليم ، لتبقى بذلك وتظل اللغة اليابانية منطلق نهضتها العلمية والصناعية الجديدة .
    والأمر نفسه نجده عند الكوريين ، الذين يمتلكون أزيد من عشر قنوات ومائة قناةٍ تلفزية ، كلها خاصّة ، إلا قناة حكومية واحدة ، وتبث جميعها برامجها باللغة الكورية ؛ لأن القائمين عليها ينطلقون من وعي جماعي ، ليس بحاجة إلى تقنين فوقي ، ولا تعليمات مُملاة على عقولهم، وإنما يفعلون ذلك ؛ لتحسُّسِهم بخطورة التفريط في هذا المقوّم ، الذي يجمع الكل ، ولا يتخلَّف عن الاهتمام به إلا غيرُ العارفين بخطورة ذلك  !.   أما في الفيتنام ، فقد دعا القائد الفيتنامي " هوشي مينه " أبناء أمته إلى التمسك بلغتهم ، ولا يفرطون في ذلك ، قائلا: « لا انتصارَ لنا على العدو إلا بالعودة إلى ثقافتنا القومية ولغتِنا الأمِّ ». وأضاف : «  حافظوا على صَفاءِ لغتكم حفاظَكم على عيونكم ، حَذارِ مِنْ أن تضعوا كلمةً أجنبية  في مكانٍ بإمكانكم  أن تضعوا فيه كلمةً  فيتناميةً  ».
      ولنا في الدول الأخرى أكثر من مثال ، يُعطي صورة واضحة على مدى الحرص الشديد ، الذي يوليه أولو الأمر ، ودرجة العناية ، التي يقدمها المتحدثون بلغات أقوامهم .
    وإذا كانت الشعوب المتقدمة تعتز بلغاتها ، وتبذل ما في وسعها من أجل الحفاظ عليها ورفع مستوى الأداء بها ، فإن العربية أحق منها جميعا ؛ لأنها اللغة التي تحمل كلام الله تعالى في الرسالة السماوية الخاتمة، واستطاعت أن تحمل حضارة عريقة امتدت قرونا طويلة، وانتشرت في بقاع كثيرة من الأرض وأسهمت إسهاما مباشرا في قيام الحضارات الإنسانية المعاصرة .
   وعلى الرغم من أن اللغة العربية اعتبرت و لمدة طويلة لغة ً ثانوية لا يدرسها غير عددٍ محدود من الناس كالباحثين ، أصبحت الآن لغة ً ذات شعبية و لها متعلمون ،وأعدادهم في ازدياد . وقد أصبحت لغتنا عالمية بعد ظهور الإسلام حينما هبَّ العرب المسلمون  ـ بحب كبير وعزيمة أكبر ـ لنشر الدين الإسلامي  ولغة القرآن الكريم في أصقاع الأرض ؛ في ممالكَ كانت خاضعةً للإمبراطورية الفاريسية وأخرى للرومانية ، وتمكنوا بتوفيق من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وفي ظرف قصير ، بالنظر إلى حجم المهمة ، التي أُوكِلُوا بها، أن يبلغوا بها الآفاق .
   ونشطت بعد ذلك حركة تعريب الدواوين الإدارية وشؤون المال والضرائب  لأن بعضها كان يجري باللغة الفاريسية كالعراق وما جاورها ، والبعض الآخر باللغة الرومية في بلاد الشام ونصر وإفريقيا ، في الوقت ، الذي كان الأمر في الأندلس باللغة اللاتينية .
   وما المكانة ، التي بلغتها اللغة العربية من التقدم والنجاحات ، والانتشار إلا دليل على خصوصيتها من جهة ؛ والمتمثلة في خصائصها ؛ من مثل الخصائص الصوتية ، والاشتقاق ، ومميزات الكلمة العربية  ومعانيها ، والإيجاز وأنواعه وحرص أبنائها الخُلَّص على إحلالها هذه المكانة ، التي كانت عليها من جهة ثانية.  
   وذاع للغة العربية سيطها، وانتقلت من العالم الإسلامي إلى العالم غير الإسلامي  في أوربا وأمريكا ، وإفريقيا ،  فكان إقبال هذه الأمم على تعلمها ؛ من أجل تسهيل التعاملات التجارية والصناعية الأوروبية والأمريكية مع البلدان العربية  .
     وكانت تركيا من بين البلدان ، التي تشهد اللغة العربية فيها رواجا وازدهارا غير مسبوقين منذ سنوات طويلة ؛ نتيجة الانفتاح التركي على العالم العربي خاصة بعد إلغاء نظام تأشيرة الدخول إلى عدد كبير من الدول العربية ،وقد ذُكر أن إلغاء تأشيرات الدخول ، وتطور العلاقات بين تركيا، ودول الخليج والشرق الأوسط مثل سوريا ولبنان والسعودية وليبيا وإيران والعراق ، قد أدى إلى إقبال المواطنين الأتراك على تعلم اللغة العربية .  كما كانت أمريكا من بين الدول السّبّاقة إلى نشر اللغة العربية في جامعاتها ، ومعاهدها ، واحتل المرتبة الأولى بين صفوفهم رجالُ المال والأعمال، بحكم الارتباطات التجارية، التي تحكمهم بالدول العربية .
   وفي الأخير يحلُو لنا أن نختم هذه السطور بمقولة للشيخ محمد البشير الإبراهيمي ، وهو يتحدث عن اللغة العربية، فيقول : « اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة ولا دخيلة ، بل هي في دارها ، وبين حُماتها وأنصارها  وهي ممتدة الجذور مع الماضي ، مشتدة الأواخي مع الحاضر ، طويلة الأفنان في المستقبل ... ».



                       

السبت، 26 نوفمبر 2011

الحياة الثقافية والأدبية في قصور الأندلس.


 2  ـ شعر الملوك وخصائصه العامة :   
    أ ـ شعر الملوك :   إذا كان لكل أمير ((ميزة  اختص بها دون جيرانه : فامتاز المتوكل صاحب بطليوس بالعلم الغزير،وامتاز ابن ذي النون صاحب طليطلة بالبذخ البالغ ،وفاق ابن رزين صاحب السهلة أنداده في الموسيقى ،واختص المقتدر بن هود صاحب سرقسطة بالعلوم،وبزَّ ابن طاهر صاحب مرسية أقرانه بالنثر الجميل المسجوع ،أما الشعر فكان أمرا مشتركا بينهم جميعا يلقى منهم كل رعاية  ولكن عناية بني عباد أصحاب إشبيلية به كانت أعظم وأشمل)).[1]  ولعل هذه العناية بالشعر والشعراء من قبل الحكام كانت لها أسبابها الوجيهة ،كنا قد ألمعنا إلى بعضها ،إلا أن السبب الرئيس في هذا الاهتمام يعود إلى كون معظم هؤلاء الأمراء والملوك شعراء ،وأدباء  إما قالوا الشعر ،أو حاولوا أن يقولوه ، ويكفي لتبين ذلك أن نتصفح كتاب الذخيرة  أو كتاب الحلة السيراء ،لنرى مبلغ مساهمتهم في هذا اللون من النشاط الأدبي.
فمن هذه النماذج مانجده عند صاحب المرية أبي محمد بن معن بن صمادح التجيبي الملقب بالمعتصم وبالواثق بالله ، الذي لزم جماعة من كبار الشعراء من مثل ابن الحداد ،وابن عبادة وابن مالك.
فمن شعر المعتصم بعد وفاة إحدى كرائمه يروى عنه أنه ركب من قصره وأمر بمواراتها ثم قال :[البسيط ]:[2]
لمـَّاغدَاالقلبُ مفجوعاً بأسودِه            وفُـضَّ كلُّ ختامٍ من عزائمه
ركبْتُ ظهرَ جوَادي كيْ أُسِلّـيَه          وقُلْتُ للسَّيف:كنْ لي مِنْ تمائمه
ومن وصفه الذي عُرف عنه ، ما أنشده بديها ـ وهومنشرح النفس ،مجتمع الأنس ـ في موضع يتداخل الماء فيه ،ويتلوى في نواحيه،أمام مرأى الوزراء والشعراءقــائلا :[البسيط] :[3]
انْظرْ إلى حُسْنِ هذا الماءِ في صَـبَبِه      كأنَّه أرقـمٌ قدْ جَـدَّ في هَربِه
  ولما بلغه عن ذي الوزارتين أبي بكر بن عمار هناتٌ ،لم تطرق جفونه بها سناتٌ وكانت بينهما جفوة فرقت ما بين الصحب والخلان، اضطر ابن عمار مكاتبته ،فلم يلتفت أبو يحي إليه أول الأمر  وبعد بلوغه غضب ابن عمار ،كتب إليه مراجعا،ومعاتبا أبيات يضمنها خلاصة تجاربه مع خلانه الذين لم يُسرَّ يوما بأحد منهم ، فيقول :[الطويل ]:[4]
    وَزهَّدَنيِ في الناسِ مَعْرِفَتي بهِم       وطُولُ اخْتبَاري صَاحبًا بعدَ صاحِـب
     فلَمْ تُرِني الأيامُ خِلاًّ تَسُرُّني          مبَادِيه إلاَّ سَــــاءَني في العَواقـبِ
    وَلاقُلْتُ أرجُوهُ لِدَ فْعِ مَلَمَّة       مِنَ الدَّهْر إلاَّ كانَ إحْدى النَّوائِـــب

وأثناء تنـزهه في إحدى الحدائق الغناء ،ومسارحها الفيحاء ،هيّـجته ذكرى إحدى حظاياه  وأزعجته وأرّقته فكتب إليها في رقعة طـيّرها إليها في جناح حمامة ، في قــوله: [الطويل]:[5]
وحـمّلْـتُ ذاتَ الطُّـوقِ مـنّي تحـيـةً        تكونُ على أُ فْقِ المريّة مِجْـَمرا
تبلّغُ مِن وُدِّي إليكُـم رسَـائـــــلا       بأِعْبَقَ مِن نَشْر العَبيرِ وأعْطَــرا

وكان من مكاتباته التي كانت بينه وبين الوزراء والأمراء ،تلك التي أرسلها إلى المعتمد محمد بن عباد  صاحب إشبيلية ـ الذي اتهمه بالسعي عليه عندابن تاشفين ـ رادا على إهانته له شاكرا ،ولِبرّه ذاكرا وإحلالا له عَلَمًا بين الشمس والقمر ،فيقول:[البسيط]:[6]
شُكْرِي لبِرّكَ شُكْرُ الرَّوْضِ لِلمَطر      ونَفْحُ بِشْرِي بهِ أذْكَى مِن الزّهَـر
وجَاءَني مُخْبِرٌ عنْـه ،فَقُلتُ له  :       باللهِ قُـلْ وأعِدْ ياطيِّبَ الخـَبــر
ياواحِداً عَلَمًا في كلِّ مَنْـَقَـبة          جَلَّتْ ويَا ثالثًا للشمسِ والقَـمـر
لَئِنْ حُرِمْتُ لقاءً مِنكَ أشكُرهُ          لقَدْ حَلَلْتَ سَوادَ القلبِ والبصَــر
قال عنه صاحب القلائد (( وكان له نظم أرج النفحة ،بهج الصفحة ،يصف به مجالس إيناسـه ويصرفه بين ندمائه وكاسه )) [7]  . وهو الذي قال :" نُـغِّـصَ علينا كلُّ شـيْء ،حتى الموت "
فبكت إحدى حظاياه ،فرمقها بطرفه الكليل ،وقال وهـو يتنفس الصعداء من حر الغليل :[متقارب][8] :
تَـرَفَّقْ بِدَمعِكَ لاَ تُفْـنِه       فَبَيْنَ يَدَيْكَ بُكاءٌ طَويل.

فكانت بذلك أشعاره ـ على الرغم من قلتها ـ تدور في فلك المجالس ،على نغمات كؤوس الراح التي تملأ عقولهم، وتجعلهم يستذكرون حظاياهم ،فيقولون في ذلك شعرا ،أو تتضمن مكاتباته مع خلانه وأصفيائه مراجعة ، أو بيان قديم وُدّ جمعهم .
     أما بنورزين؛ أصحاب السهلة ،فكان مؤسس دولتهم هذيل بن عبد الملك ،قد خلّف على الرياسة عبد الملك ابن هذيل بن رزين ،ذا الرياستين حسام الدولة أبا مروان(ت.496هـ) وقد طال أمد حكمه حتى بلغ ستين عاما قال عنه صاحب القلائد (( وكان ذو الرياستين منتهى فخارهم وقطب مدارهم ...وله نظم ونثر ما قصر عن الغاية،ولا أقصرا عن تلقي الراية،وقد أثبت منهما نبذا تروق شموسا ،وتكاد تشرب كؤوسا [9])).
            ورويت له أشعار في أغراض متعددة، يدور معظمها حول الفخر، والوصف والنسيب.
          ففي المجال الأول يقول مفتخرا بنفسه :[الخفيف]:   
أنَا مَلكٌ تجَمَّعتْ في خمَسٌ        كُلُّهَا لِلأنَامِ مُحْي مُمِيت
هِي:ذِهْنٌ وحِكمَةٌ ومَضَاء        وكلاَمٌ في وقتِه وسُكوت
           جاعلا نفسه في مرتبة عليا ،لايبلغها إلا من سعى إليها سعيا حثيثا ،طالبا من الذي يريد إدراك منزلته أن يحكيه في الكرم والشجاعة ،والقلم ،فيقول:[البسيط] :[10]
شأوْتُ أهلَ رَزِين غَـْيَر مُحْتَفل     وهُـمْ على مَا عَلِمْتم أفضلُ الأُمَــم
قومٌ إذا حُورِبُوا أفْنُوا وإنْ سُئِلُوا      أغْنوا،وإنْ سُوبِقُوا حَازُوا مَدَى الكَرم
ومَا ارْتَقَيْتُ إلى العَليَا بِلاَسبَب      هَيْهاتَ،هَلْ أحَدٌ يَسْعَى بِــلاَ قَـدم؟
فمَنْ يَرُمْ جاهِداً إدراكَ مَنْزِلتي      فَلْيَحْكِني في النَّدَى والسَّيفِ والقَلَـم
        وفي هذه المعاني قال عنه الفتح بن خاقان (( كان غيثا للندى ،وليثا على العدا ،وبدرا في المحفل وصدرا في الجحفل،وله نظم ونثر ما قصرا عن الغاية)).[11]وحين نتأمل هذه الأبيات نجد "أنا " المتنبي،تسري فيها سريانا واضحا،وافتخاره بنفسه لدرجة أن اجتمعت فيه صفات خمس لو توافرت في شخص لبلغ الكمال البشري .
       أما في الوصف ،فيبدع في التصوير حين يؤنْسن الروض ويبعث فيه القدرة على إيقاظ النفوس حينما يكسوه الطلّ،وتتراقص الأغصان وقتما تلامسها الريح. ويزداد حسن تصويره أكثر بتشبيهه لانسياب الماء وجريانه بمِـبْرد كسرته راحة الريح ،وصفاءه بحسام صقيل مجرد ، على أوتار حمائم غُـرّد ،في جو يبعث على الاستمتاع بالحياة،واقتناص الملذات في قوله:[البسيط]:[12]
وَرَوضٍ كسَاهُ الطلُّ وَشْياً مُجَدَّدا      فأضحَى مُقِيمًا لِلنفوسِ ومُقْــعِدا
إذَا صَافحَتْه الريحُ ظلَّتْ غُصُونُه     رَواقِصَ في خُضرمِنَ العصبِ مِيـدا
إذَا مَاانْسيَابُ الماءِ عَاينَت خلتَه      وقد كسّرتْهُ راحةُ الريحِ مِـــبْرَدا
وإنْ سَكنتْ عنه ،حَسبْتَ صفاءَه     حُسَامًا صَقِيلا صَافيَ المتْنِ جُــردا
وغنّتْ به وُرْقُ الحمَائمِ حولنـَا     غِناءً يُـنَسِّينا الغَريضَ ومَعْـــبَدا
وله في خليط ودع ، وأسال فراقه الدمع ،سكب عبد الملك بن رزين لأجله عواطفه الملتاعة ، ودموعه السيالة على فراق الأحبة الذين يخشى ألحاظهم إذا سلت سيوفها أكثر مما يهاب سيوف الحرب :[الطويل]:[13]
دَعِ الدَّمعَ يُفْنِ الجَفْنَ لَيْلةَ وَدَّعُـوا       إذَا انْقَلبُوا بالقلبِ لاكانَ مَدْمَــعُ
سَرَوا كاغْتداءِ الطيرِلاالصَّبرُبَعدَهم       جمَيلٌ ولا طُولُ النَّدامَة يَنفَــــعُ
أَضِيقُ بِحَمْلِ الفادحَات مِنَ االنوى      وصَدري مِن الأرض البَسيطةِأَوْسَـعُ
وإنْ كُنتُ خَلاّعَ العِذارفـإنّــني         لَبِسْتُ مِن العلياءِ مَالَيْسَ يُخْلَــعُ
إذَا سَلَّتِ الألحـاظُ سَيفًا خَشيــتُه       وفي الحرْبِ لا أَخْشَى ولا أَتَوَقَّـعُ
وإذا ولجنا حاضرة بطليوس ،وجدنا بني الأفطس ،ومن أشهر رجالها المظفر صاحب كتاب" المظفري" المشهور ،ومنهم ابنه المتوكل بن المظفر بن المنصور أبو محمد الذي شهدت المملكة في عهده شيئا من الاستقرار . ذكره صاحب القلائد قائلا (( ملك جنّد الكتائب والجنود ،وعقد الألوية والبنود،وأمر الأيام فأتمرت ،وطافت بكعبته الآمال واعتمرت ،إلى لسن وفصاحة ورحب جناب للوافد،وساحة ونظم يزري بالدار النظيم ،ونثر تسري رقته سري النسيم..))[14]
وإذا كان المتوكل قد عُـرف عنه نثره أكثر من شعره ، إلا أن صاحب الذخيرة ،وصاحب القلائد وصاحب الحلة قد أوردوا له قصيدة [15] ،ختم بها رقعة نثرية كان قد أرسلها المتوكل أيام سلطانه بـيـابْرة إلى أخيه يحي الملك المنصور في بطليوس بعد أن بلغه قدْحٌ فيه حدث بمجلس أخيه المنصور،يصب عليه جام لومه ، وعتابه على ابن أبيه وأمه ، مذكرا إياه بالأخوّة التي كانت تجمعهما وما كان يسديه لأخيه من أفضال ،آملا في كل ذلك أن يطفىء نارا في قلبه محرقة قبل أن يحم الحمام فيشكوه يوم الحشر للملك العدل .
فمن هذه القصيدة ـ التي تعتبر نفثة مصدور ،انتهى الجفاء به منتهاه ،وبلغ به أقصى مداه ،والتي تبلغ حوالي أربعة عشر بيتا في المصادر التي أحلنا عليها ـ نقتطف ما يلـي :[الطويل]:[16]

             فـمَا بَالُهُمْ لا  أَنْعَمَ اللهُ بَالَـهُمْ              يُنِيطُونَ بي ذَ مًّا وقدْ عَلِمُوا فَضْلي
              يُسِيئُونَ في القَوْلِ جَهْلاً وضـلَّةً            وإنِّي َلأرْجُو أنْ يَسُوءَهم فِعْلــي
             طَـغَامٌ ،لِئَامٌ ، كِرَامٌ بِزَعْمــِهم           سَواسيَّةٌ ،مَا أَشْبَـهَ الحُولَ بالـقُبْل
            لَئِنْ كان حقّا مَا أَذَاعُـوافلاَخَطَتْ           إلى غايةِ العلياءِ مِن بَعْدِها ِرجـْلي
           "وإنِّي وإنْ كُنتُ الأخيرَ زمَانــه"          َلآتٍ بمِاَ أَعْيَا الصَّنَاديدَ مِن قَبْـلي
فيَاأيُّهَا السَّاقي أخَاه على النـَّوى           كؤوسَ الِقلاَ مَهْلاً، رُوَيْدَكَ باِلعَـلِّ
لِنُطْفىءَ ناَراً أُ ضْرِمَتْ في نفُوسِـنا          فَمِثْلِي لاَ يُقلَى ،ومِثلُك لا يَقــلِي
أَلَسْتُ الذي أَصْـفاكَ قِدمًا وِدَاده           وألقَى إليكَ الأمرَ في الكُثرِ والقُـلّ؟
وَصَيّركَ الذُّخرَ الغَبـيطَ لِدهـرِه           ومَنْ لي ذُخرًا غيرُكَ اليومَ؟ لاَ،مَنْ لي؟
وقدْ كُنتَ تُشكِيني إذَا جِئْتُ شاكيًا          قلْ لي:لِمَنْ أشكو صنيعك بي؟ قُلْ لي
            فبــَادِرْ إلى الأُولَى ،وإلاَّ فإنَّـني          سَأشْكوكَ يومَ الحشْر للمَلِكِ العَدْل
   وتعتبر هذه القصيدة الإخوانية ترجمانا لمدى شاعرية المتوكل ،وأخذه من دوحة الشعراء المشاهير من أمثال المعري الذي تبدو روحه حاضرة هاهنا من خلال " وإني وإن كنت الأخير زمانه " .
كما تحضرني ـ وأنا أتصفح هذه الأبيات ـ معاني الشاعرالأموي "المقنع الكِنْدي" ، لمّا لاَمَهُ قومه عن كثرة ديونه[17] التي سدّ بها ثغورا ما أطاقوا لها سدًّ ا [ الطويل] :
يُعَاتِبُنِي في الدَّيْنِ قَوْمِي وإنمَّــا        دُيُونِي في أشياءَ تُكْسِبُهُمْ حَمْدا
لذلك لم يكن ابن المظفر قليل الحظ من قرض الشعر ، وهو الذي صاغ هذه المعاني صياغة المتمكن من الصنعة على الرغم من أنه ناثر أكثر منه شاعر .
  وأثناء الحديث عن الملوك الشعراء ، لا نُعذَر إذا ما أغفلنا بيتا عُـرف آله بقول الشعر أباً عن جدٍّ ارتضعوا من لبان الشعر العربي ،وتوارثوا قوله جيلا فجيلا ؛ ذلك هو البيت العبادي ،الذي سنقف مع أحد أبنائه بل أشعرهم جميعا من خلال هذا البحث  وهو ابن عباد المعتمد على الله .
وإلى أن نحط الرحال في بيته الكريم ـ بعد هذا المدخل الذي اقتضته طبيعةالموضوع ـ نعود قليلا  إلى أبيه المعتضد بالله لنقف على مدى شاعريته من خلال المصادر التي اعتمدناها ( الذخيرة، القلائد الحلّة والنفح) على وجه الخصوص.
  فالمعتضد بالله عباد ابن ذي الوزارتين القاضي* أبو القاسم محمد بن عباد قد تولى الأمر ـ بعد أبيه ـ سنة ثلاث وثلاثين وأر بعمائة (433 هـ ) وتسمى أولا بفخر الدولة ثم بالمعتضد ، وُ صف بالجبار،وبالمتناقض ولكنه يحسن تسيير أمور دولته، وبالمتهور الذي يتحاشاه القريب مثل البعيد ،طالت يده واتسع بلده يقضي نهاره في تدبير الأمور، وليله في تملي السرور يقال إن له شعرا ينفث به فيما يعنّ له من أمر جُـمع في ديوان وموزع في موضوعات مختلفة من وصف و نسيب ،وفخر، وغير ذلك.[18]
يجمع الملك إلى جانب الدهاء في السياسة، والقسوة في المعاملة ،والشدة في الحكم ،والترف والبذخ الذي يسبغه على ندمائه ذاكرةً واعيةً ، وقريحة شاعرية طيبة ، جعلت معاصريه يضعونه في مراتب أبرز الشعراء قال عنه ابن الأبار (( ونظر مع ذلك في الأدب ـ قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان ـ أدنى نظر بأذكى طبع حصل منه،لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها ، من غير تعهد لها ، ولا إمعان في غمارها ولا إكثار من مطالعتها...أعطته نتيجتها على ذلك ما شاء من تحبير الكلام ، وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة ، في معان أمدّتْه فيها الطبيعة ، وبلغ منها الإرادة ، واكتتبها الأدباء للبراعة )) [19]
ولعل المكانة التي بلغها المعتضد في قومه ، والمنزلة التي وضع فيها من قبل معاصريه ، جعلته يحسب نفسه خير الملوك،فيصرح بذلك قائلا :[ البسيط ] :[20]
هذي السعادةُ قـد قامتْ على قدمٍ        وقد جلسْتُ لها في مجلس الكرم
فإنْ أردْتَ إلـَهي بالورى حسنـا       فـلِّـكْني زمامَ العُرْب والعَـجـم
فإنّي لا عدَلْتُ الدهـرَ عن حسـن      ولا عدلْتُ بهم عن أكرم االـشيـم
أقارعُ الدهرَ عنهم كلَّ ذي طلــب     وأطردُ الدهرَ عنهم كلَّ ما* عـدم
فمن خلال هذه الأبيات نتبين اعتداد الشاعر بنفسه ، وافتخاره بمقدرته على أن يتملك زمام العرب والعجم على السواء ،طالبا توفيق الله في ذلك المسعى ، وسوف لن يدخر جهدا في سبيل الوصول بالناس إلى أحسن حال ، ولو كلفه ذلك مقارعة الدهر ، وهو الذي يملك على نفسه تغيير حياته بيده ؛باليِّها بجديدها ، ولا سيما إذا كان الجود والكرم هما ثوباه اللذان يبدل بهما طريفه بتليده ، وفي ذلك يقول :[الطويل ]:[21]
أجـدّدُ في الدنيا ثـيابا جديــدةً       يجدّدُ منها الجودُ ما كان باليا
فـما مرَّ بي بخلٌ بخاطِرمهجــــتي    ولا مـرّ بخلُ الناس قطّ بباليا
ومنْ يتصفحْ حياة المعتضد بن عباد يجدْه يفرغ الأموال على الشعراء المدّاحين إفراغا ،ليبدوَ في هيئة من العظمة السلطانية  ، وينفق مع ندمائه في مجلس اللهو والمتاع ما كان بيده ،في سبيل كسب المحامد ، ولو كان الثمن مهجته ، إذْ يقول : [الطويل ] :[22]
أقـومُ على الأيام خيــرَ مقـام            وأُ وقِدُ في الأعداء شـرَّ ضــرام
وأُنفقُ في كسْبِ المحامدِ مُهجَـــتي            ولو كان في الـذِّكر الجميلِ حِمَامي
ولم يكن الملك يغيب عن مجالس الأنس التي لا تـنقطع ، بل كان يبيت لياليه مع الساهرين   يتقارضون الشعر ، ويتعاقرون الخمر ، حتى تكاد تذهب بحيائهم وجلالهم ، فقال عنهم ابن بسام : (( كان هو وجلساؤه يرتجلون في خلواتهم خمريات هي الغاية في رقة الذوق ، وجمال الأسلوب وربما أودع شعره من المعاني ما يمس العقيدة))[23]في قوله [ مجزوء الكامل ] :[24]
اشْرَبْ على وجْهِ الصَّـباحْ         وانْظُرْ إلى نَـوْرِ الأقـَـاحْ
واعْـلمْ بأنَّــكَ  جاهـلٌ         إِنْ لـمْ تقُـلْ باِلاصْـطباَحْ
فهذان البيتان ـ ومثلهما كثير ـ يمثلان الصورة الحقيقية  من حياة جل الملوك ، المتهالكين على الملذات المنغمسين في الشهوات ، المنفقين مما تجود به خزائنهم المملوءات .
إلا أن هذه الليالي الماجنة التي كان يحياها المعتضد وأصحابه ،لم تكن لتقعده عن واجبه ـوإن لم يكن بمستطيع ولاراغب في أن يقلع عن إدمانه للذاته ـ في ساحات الرئاسة ،وعن مجده الذي لايفرط فيه،وفي ذلك يقول:[ الطويل ]:[25]
  لعَمرك إني بالمُدامَة قَـــــوّال        وإني لِمَا يَهوَى النَّدامَى لفَعّــال
 قسَمتُ زمَاني بينَ كدٍّ وراحَـــة         فَلِلرَّأيِ أسْحارٌ وللطِّيب آصَـال
  فأُمْسِي على اللذَّات واللَّهوِ عاكِفا          واُضْحي بِسَاحاتِ الريَّاسة أَخْتال
                ولسْتُ علـى الإدمانِ أَغفلَُ بُغْيَتي         مِنَ المجدِ إنيِّ في المعَالي لمَحْتـَــال
كما يورد ابن بسام ، وابن الأبار كلاهما بيتين[26]  رأياهما من أحسن ،وأجود ما قاله المعتضد الشاعر في مجلس أنسه وشرابه :[   الطويل  ]   : [27]          
    شَربْنا وجَفْنُ اللَّيل يَغسلُ كُحلَه           بِماءِ الصَّباح والنَّسيمُ رقيـقُ
    مُـعَتّقَة ً كالتِّبْرِ  أمَّا بُخَارُهــا            فضَخْمٌ وأمَّا جِسمُها فَدقيقُ
وله في النسيب شعر يضمنه آلامه التي يكابدها من الهوى ؛ فيشكو بمدامعه حب حبيبته ،بعد أن يصفها بأوصاف حسية ؛بعينيها الغزاليتين ،ونورها المشرق ،وقدها المياس،قائلا :[ الطويل ]:[28]
رعَى اللهُ مَنْ يَصْلَى فؤادي بِحبِّه       سَعيرًا،وعَيني مِنهُ في جَنَّةِ الخُلد
غَزاليةُ العينيْن ،شمَسيةُ السَّنا        كَثيبيةُ الرِّدْفيْن غُصنيةُ القَـــد
شَكوتُ إليهَا حُبَّهَا بِمدَامِعي        وأعْلمتُها مَا قد لَقيتُ مِنَ الوَجْد
وفي معانٍ أمَدَّتْهُ فيها الطبيعة جميل وصفه للـياسـمين  :[ مجزوء البسيط ] :[29]
كـأنمَّا ياسمينُـنا الغَـضُّ         كوَاكب في السَّماء تَبْيَضُّ
والطـرقُ الحـمْر في جَوانبِه       كَخدِّ عذراءَ  مَـسَّه عَضُّ


[1] - إميليو غرسية غومس emilio garcia gomez ، الشعر الأندلسي ،ترجمة حسين مؤنس ، مكتبة النهضة المصريةـ القاهرة ـ ط 2
       1956 ، ص 45
[2] ـ ابن الأبار ،الحلة السيراء ،2/84
[3] ـ المصدر السابق ،2/85.
[4] ــ الفتح بن خاقان، قلائد العقيان في محاسن الأعيان ، تقديم محمد العناني ،المكتبة العتيقة ، تونس ، 1966، ص51 .
             وابن الأبار ، الحلة السيراء ،2/84.
[5]  ـ الفتح بن خااقان ، قلائد العقيان ،1/52
[6]  ـ ابن الأبار ،الحلة السيراء ،2/87.
[7]  ـ الفتح بن خاقان ، قلائد العقيان ،1/49.
[8]  ـ المصدر السابق ، 1/49
[9] ـ الفتح بن خاقان ،قلائد العقيان ،ص 53
[10]  ـ المصدر نفسه ،2/111.
[11]  ـ المصدر نفسه ،ص 53.
[12]  ـ ابن الأبار ،الحلة السيراء ، 2/111.
[13]  ـ المصدر نفسه ،2/112
[14]  ـ الفتح بن خاقان ،قلائد العقيان ،ص37.
[15]  ـينظر :ابن بسام ، الذخيرة ،2/2 ،ص 648.   والفتح بن خاقان،  القلائد ،2 / 41. وابن الأبار، الحلة ،2 / 104.
[16]  ـ ابن الأبار ،الحلة السيراء ،2/105،104.
[17]  ـ ينظر : عمر فروخ ، تاريخ الأدب العربي ، ص 421 .
* هو محمد بن إسماعيل بن عباد قاضي إشبيلية ، كان من أهل العلم والعناية برجاله . تولى القضاء في حياة أبيه إسماعيل، ثم انفرد بالحكم والتدبير بعد أبيه . وكان هو المؤسس الفعلي للدولة العبا د ية . توفي في جمادى الأولى  سنة 433 هـ ، ودفن بالقصر ، فخلفه ابنه عباد الملقب بالمعتضد بالله .ينظر : ابن الأبار ، 2/34، وما يليها .
[18] - ينظر: ابن الأبار، الحلة السيراء، 2/43، وما يليها.
[19] ـ ابن الأبار ، الحلة السيراء ،2/42.
[20] ـ المصدر نفسه ، 2/45.
* " مــا "  : هنا زائدة .
[21]  ـ ابن الأبار ، الحلة السيراء ، 2/43.
[22]  ـ المصدر نفسه ،2/44.
[23]  ـ آ نخل جنثالث بالنثيا angel gonzalez palencia ،تاريخ الفكر الأندلسي ،ص87.
[24]  ـ ابن بسام ، الذخيرة ، 2/1 ، ص 30.
[25]  ـ ابن الأبار ،الحلة السيراء ،2/46.
[26]  ـ ينظر: ابن بسام ،  الذخيرة ،2/1،ص 31. وابن الأبار، الحلة ،2/ 49.
[27]  ـ ابن بسام ،الذخيرة ،2/1 ،ص31.
[28]  ـ ابن الأبار  ،الحلة السيراء ،2/47 ،48.
[29] - ابن بسام ،الذخيرة ، 2/1 ،ص 29.

الحياة الثقافية والأدبية في قصور الأندلس بقلم الأستاذ : شاكر لقمان


على الرغم من الفتن والاضطرابات التي سادت ممالك الطوائف في القرن الخامس الهجري بسبب الانقسام، واختلاف الرأي،  الأمر الذي كان مناسبا للنصارى لاستجماع قواهم وتوحيد صفوفهم للإجهاز على هذه الممالك واحدة تلو الأخرى، إلا أن الثقافة – عموما – استطاعت أن تخطو خطوات عملاقة وعرفت هذه الفترة بفترة الازدهار الثقافي والأدبي والعلمي التي احتضنتها قصور الأمراء والملوك . وكان من بين هذه النشاطات[1] العلمية والثقافية العلومُ الدينيةُ ، التي كانت لها في القرن الخامس الهجري المكانة المرموقة ، على الرغم من ظاهرة التفسخ الأخلاقي ، والانغماس في ملذات الدنيا ،التي أقبلوا عليها إقبالا كبيرا ،و من جهة أخرى لقي العالم المشتغل بهذه العلوم  الاحترام الكبير والتقدير الجليل من قبل الخاصة والعامة على السواء . ونظرا لتأثير هذه الفئة في المجتمع الأندلسي ،سعى الأمراء في تقريبهم من مجالسهم وبذل الهبات لهم لإسكات ألسنتهم وإرضائهم  ومنع تأليب قلوب العامة عليهم .
كما نشطت العلوم اللغوية ،وبدا الاهتمام ملحوظا لديهم بعلم النحو والصرف ، والبلاغة والعروض وغيرها ،وبرع في هذا الميدان علماء ولغويون[2] ، فكانوا في عصرهم كما كان الخليل وسيبويه في عصرهما إلى جانب علم التاريخ الذي كان عندهم من أنبل العلوم وأشرفها ،وكثيرا ما كانوا يمزجون بينه وبين الأدب نظما ونثرا  .
بالإضافة إلى ذلك اهتم الأندلسيون بالفلسفة والتنجيم،وقد لقي المشتغلون بهما معارضة شديدة من قبل الفقهاء ورجال الدين ،الأمر الذي أدى ببعض الأمراء والملوك أن يحرقوا كتب هؤلاء الموصوفين آنئذ بالزنادقة .
   أما الأدب ـ ولاسيما الشعر ـ فكانت سوقه نافقة ، ومجالسه ((  من أكبر مسارح الأفكار،وأفخم مظاهر الجمال ، وأجمع أنواع الأدب ، واللهو والجِد والهزل...))[3] ، وأكثر أنواع الثقافة انتشارا ورواجا في الأندلس في فترة ملوك الطوائف بخاصة ،و(( من هنا كان هذا الزمان عصرا عظيما للشعر والشعراء  إذْ تنافس ملوك الطوائف في اجتذاب الشعراء إلى نواحيهم...ولكن عناية بني عباد أصحاب إشبيلية به كانت أعظم وأشمل )).[4]
   ولقد أسهم في ا نتشار هذه الآداب والثقافات باختلاف أنواعها أسبابٌ وعواملُ متنوعة ،نذكر منــها :
1 ـ الحسّ الثقافي لدى الحكام وبذل التشجيع :
لقد شهد عصر ملوك الطوائف استقطابا للعلماء ،والمشتغلين بالثقافات المختلفة ، وكان ذلك راجعا بالدرجة الأولى إلى شخص الحاكم نفسه الذي كان يسعى جاهدا إلى أن يكون له السبق في كل المجالات ولاسيما السياسية منها،التي استتبعها تنافس في العلم والأدب ،حيث إن كل ملك منهم كان يسعى إلى أن يجعل مجلسه محجة للعلماء وأولي الأدب، وقد أشار أبو الوليد الشقندي إلى ذلك فقال((... فما كان معظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني،عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني، وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم ،ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم))[5].
 وكان هؤلاء الشعراء المنتمون إلى إحدى بلاطات الأمراء يتقاضون أجرة شهرية أو سنوية مقررة،بالإضافة إلى الجوائز التي قد تقل، أو تكثر بحسب مستوى القصيدة، ومدى وصولها إلى جيب الحاكم عن طريق قلبه وعقله، وبحسب امتداد يد الأمير أو قبضها.
فهذا مجاهد الصقلي أمير دانية الذي استقطب جماعة من أهل قرطبة للين جنابه، وذكاء شهابه، قال عنه صاحب الذخيرة (( ... وكانت دولته أكثر الدول خاصة، وأسرها صحابة، لانتحاله العلم والفهم فأمَّهُ جملة العلماء ، وأنسوا بمكانه، وخيموا في ظل سلطانه ..))[6] فكان بلاطه بذلك مقصد القرطبيين، وحلبة ظاهرة، على الرغم من كونه من أزهد  الناس في الشعر، وأحرمهم لأهله، وأنكرهم على منشده ، إلا أنه كان لا يضم من الفرسان إلا الأبطال الشجعان، منهم أبوعمرو المقرئي، وابن عبد البر، وابن معمر اللغوي وأشهرهم  جميعا ابن سيده الذي ألف لهذا الأمير أشهر مؤلفاته "المحكم" و" المخصص " .لذلك لم يكن من الغرابة في أن يولي أبا العباس أحمد بن رشيق   جزيرة ميورقة (( فكان ينظر فيها نظر العدل والسياسة ويشتغل  بالفقه والحديث، ويجمع العلماء والصالحين،ويؤثرهم ويصلح الأمور جهده )).[7]
وفي المريّة ،  نجد أبا يحيى بن معن صمادح التجيبـي،  الملقب بالمعتصم بالله الواثق بفضل الله الذي : ((كان رحب الفناء، جزيل العطاء، حليما عن الدماء والدهماء، فطافت به الآمال، واتسع فيه المقال وأُعملت إلى حضرته الرحال))[8].

كما كان يجلس في  الأسبوع يوما إلى الفقهاء والمثقفين،يتدارسون القرآن والحديث، ويخوضون في مسائل فكرية متشعبة. وازدان مجلسه بوجوه سمحة، وشعراء فحول كأبي عبد الله بن الحداد وابن عبادة،وابن مالك والأسعد بن بليطة، وأبي حفص بن  الشهيد ((رغم اتصافه  بكثرة الجبن وقلة الجود،وعلى ذلك قصده العلماء والأدباء)).[9]
وفي سرقسطة كان المقتدر[10] بالله بن هود ( ت473 هـ )، وابنه يوسف477 هـ) من أكبر المعنيين بالعلوم، المشاركين فيها فكان المقتدر معنيا بالفلسفة والرياضيات، والفلك، بينما كان للثاني تأليف في الفلك يسمى " كتاب الاستكمال".
أما في بطليوس عاصمة بني الأفطس فبرز إلى الوجود المظفر أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، يصفه ابن بسام  بقوله (( أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع وله  التصنيف الرائق والتأليف الفائق،المترجم بالتذكرة ، والمشتهر اسمه أيضا بـ " كتاب المظفر " في خمسين مجلدة)) [11]ويعرف مؤلفه باسمه المشهور"المظفري"  فجمع فيه صاحبه من العلوم،والفنون والمغازي، والسير، والأمثال والأخبار وما يختص بعلم الأدب.
 وللمظفر لفتات نقدية مشهودة ،تروى عنه في إنكاره للشعر على قائله في زمانه وهو الذي يقول ((مَن لم يكن شعره مثل شعر المتنبي أو شعر المعري،فليسكت))[12].
  كما اشتهر في حضرة بطليوس المتوكل بن المظفر المنصور أبو محمد ،الذي كان رحب الجناب للوافدين،معروفا بمهارته هو نفسه في الشعر والنثر،ولذلك لم تدخر حضرة  بطليوس جهدا في زمان المظفر وابنه في تشجيع الأدب نثرا و شعرا [13]. ولمع في هذه الدولة جماعة من الشعراء والكتاب الذين لاقوا الرعاية  والاهتمام منهم عبد المجيد بن عبدون،وابن البين البطليوسي ،وأبو بكر بن عبد العزيز ابن سعيد وأبو بكر ابن قزمان،وغيرهم .
أما حضرة إشبيلية ،التي كانت قاعدة الجانب الغربي من الجزيرة ،وقرارة الرياسة،ومركز الدول المتداولة (( فاشتمل هذا القطر الغربي لأول تلك المدة على بيتي حسب ،وجمهوري أدب ؛مملكتان من لخم وتجيب،مصّرتا بلاده ، وأكثرتا رواده ، فأتاه العلم من كل فج عميق ،وتبادره العلماء من بين سابق ومسبوق  وكـلما نشأ من هذين البيتين أمير كان إلى العلم أطلبَ ، وفي أهله أرغب،والسلطان سوق يُجلب إليه ما ينفق لديه ...)).[14]
 لذا كانت عاصمة بني عباد موطن الأدب في الأندلس قاطبة ،وكان حكامها ذوي موهبة متأصلة  ولاسيما في عهد المعتضد ، الذي عرف عنه مشاطرته للشعراء والبلغاء فيما يقولون ، ويَنظمون ، بسطا لهم وإقامة لهممهم ،واهتماما بهم ،الأمر الذي حدا به أن يحد ث ديوانا خاصا ضمن دواوين دولته لهذه الفئة ،ويخصص في الأسبوع يوما يلقى فيه الشعراء الذين كان يغدق عليهم بما عرف عنه من إتلاف للمال ،وكثرة التبرع،فبدا في هيئة من العظمة كبيرة . وجاء بعده ابنه محمد بن عباد المعتمد على الله خليفة لأبيه المعتضد،وفي هذا الحدث العظيم ،قال أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري الكفيف(ت488.هـ)
[ مجزوء الرمل ]:[15]             
مَـا تَ عبَّـادٌ ولَــكـنْ       بَقِيَ الفَرْعُ الكَــرِيمُ                                                فكـأنّ المـيْـــتَ حَـٌّي        غيْرَ أنَّ الضَّادَ مِيــمُ
فكان المعتمد على الله الفرع الفينان من المعتضد الأصل الثابت ،من مشاهير شعراء الأندلس ،ومكانته بخاصة أهم من مكانة أبيه ،وهو من شعراء العربية الذي أشاد بفضله غرسية غومس garcia gomez ((...يمثل الشعر من ثلاثة وجوه :أولها أنه كان ينظم شعرا يثير الإعجاب ، وثانيها أن حياته نفسها كانت شعرا حيا ، وثالثها أنه كان راعي شعراء الأندلس أجمعين ، بل شعراء الغرب الإسلامي كلـه ))[16].
  وتجمع حول بلا ط بني عباد ـ وبخاصة في عهد المعتضد وابنه المعتمد ـ  شعراء العصر من أمثال ابن زيدون ، ابن اللبانة ،ابن عمار[17] ، ابن وهبون وابن حمديس الصقلي ،وغيرهم كثير .وقد بذل كل ملك للعلماء والأدباء بسخاء أموالا طائلة ؛لأجل تقريبهم ،والاحتفاظ بهم في قصورهم ؛ فقد كان المعتمد لا يتوانى في منح الشعراء أكياسا من الذهب والفضة استبقاءً ، واسترضاءً لهم وكان لايرد طلب شاعر ولو غالى  في الطلب .
  تلك هي الصورة العامة التي شهدتها بلاطات الملوك ،والأمراء في عصر الطوائف . كما أن هذه التشجيعات  المادية والمعنوية التي كان يبذلها هؤلاء الحكام ،قد كانت متفاوتة من إمارة إلى أخرى ،ومن حاكم إلى آخر، إذ كان يروى عن صاحب السهلة عبد الملك بن هذيل أنه كان ((متعسفا على الشعراء متعسرًا بمطلوبهم من ميسور العطاء))[18].
  والأمر نفسه مع بني هود، على الرغم من  احتفال  مجالسهم بالعلماء ،إلا أنهم (( غلبت عليهم دون ملوك الطوائف الشجاعة والشهامة ،وقبضوا أيديهم،فقلّت أمداحهم ،وترك الشعراء  انتجاعهم إلا في الغِـبِّ والنادر ، على سعة مملكتهم ، و وفور جبايتهم))[19].
وأمافي قرطبة ،فيرى إحسان عباس أن دولة بني جهور لم تكن تبذل من التشجيع ما يكون في مستوى أبنائها الذين ذاع سيطهم في الآفاق من مثل صاحب الوزارتين ابن زيدون ،والشاعرة ولادة بنت المستكفي  وأبي الحسن بن سراج ، وغيرهم[20] .
  وبعد ،فقد تبين لنا بقدر ـ يمكن أن يكون كافيا ـ مبلغ رواج  نمط ثقافي على حساب آ خر ، وفي مملكة دون أخرى ، ولعل ذلك يرجع إلى مدى ميول كل حاكم من جهة ، وإلى مقدار العطاءات والتشجيعات ـ قلة وكثرة ـ التي يبذلها رعاة العلم والأدب والثقافة، الذين كانوا على قدر كبير من الثقافة، وحظ وفير من الموهبة الشعرية، التي تتفاوت من ملك إلى آخر، وذلك ما سنعرفه في الصفحات الموالية.


[1] ـ ينظر: المقري التلمساني،أحمد بن محمد ، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب ،تح إحسان عباس،دار صادر ،بيروت ـ لبنان ـ  
            1979 ، 4/358 ، 1/221 ،222.
[2] ـينظر: المصدر نفسه ،1/221.
[3] ـ أحمد ضيف ، بلاغة العرب في الأندلس ، دار المعارف للطباعة والنشر،سوسة ـ تونس ـ ط2 ، د، ت، ص 35.
[4] ـ إميليو غرسية غومس emilio garcia gomez ،الشعر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية،القاهرة
            1956 ، ص 45.
[5] ـالمقري ، نفح الطيب ، 3/189 ،190.
[6]- ابن بسام ، أبو الحسن علي، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تح إحسان عباس، الدار العربية للكتاب،ليبيا،تونس ،3/1 ،ص 22
      3/1 ،ص 22 ،1981.
[7]- ابن الأبار ،أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القضاعي، الحلة السيراء، تح حسين مؤنس ، دار المعارف ، مصر،ط2 ،1985 ،2/128.
[8]ـ المصدر نفسه ،2/82.
[9]ـ المصدر السابق ،2/82 ،83.
[10]ـ آنخل جنثالث بالنثيا angel gonzalez palencia ، تاريخ الفكر الأندلسي ، ترجمة حسين مؤنس ، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة1955.                                                                         
[11] ـ ابن بسام ، الذخيرة ، 2/2 ، ص 640
[12] - المصدر نفسه، ص 641.
[13] - ينظر: إحسان عباس ،تاريخ الأدب الأندلسي ـ عصر الطوائف والمرابطين ،دار الثقافة ـبيروت ـلبنلن ـط7،1985،ص72
[14] - ابن بسام، الذخيرة، 2/1 ، ص 12.
[15] - ابن الأبار ،الحلة السيراء ،2/54
[16] - آنخل جنثالث بالنثيا angel gonzalez palencia ،تاريخ الفكر الأندلسي ،ترجمة حسين مؤنس ،مكتبة الثقافة الدينية ـ القاهرة ، ص 89.
[17] - ينظر: عمر ربوح، أبو بكر محمد بن عمار الأندلسي – حياته وشعره – رسالة ماجستير – جامعة باتنة – 1996 
[18] - آنخل جنثالث بالنثيا  ANGEL GONZALEZ PALENCIA، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 89.
[19] - ابن الأبار، الحلة السيراء، تح حسين مؤنس، دار المعارف – مصر – ط2 ، 1985، 2/110
[20] - ينظر: إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي – عصر الطوائف والمرابطين – ص78